بدا واضحا أن نكتتي السمجة قد باغتت الرجل الجالس بجانبي.. بُهتَ أولا.. ثم انفرجت أساريره عن ابتسامة دهشة.. ما لبثت أن تحولت إلى موجة عارمة من الضحك، تلاشت فيها معالم وجهه السمين...
وفيما اتسعت دائرة الضحك والهمهمة والسعال، كنت أنا قد ندمت بعد إذ فات الأوان ..
ما الذي جعل روح الدعابة تتلبسني هكذا فجأة ؟ الأرجح أنه التوتر.. تبعات أرق الليلة الأولى التي اقضيها في بلد غريب ، وحيدة في فندق لا أعرف من نزلاءه أحد.
فات أوان الندم إذن.. كان قد سألني عما أحمل في هذه الحقيبة الثقيلة ، وأجبته : أحمل غرفة نومي التي لا يهنأ لي نوم إلا بها .. وانتهى الأمر ..
الواقع أنني أجدها نكتة مبكية أكثر منها مضحكة .. لأحاول التركيز الآن في وقائع الجلسة الأولى للمؤتمر..
المؤتمر !
سامحك الله يا أبي ، هل كان لزاما أن تظهر بمظهر الليبرالي المنفتح ؟ فلتنم أنت في مخدعك قرير العين ، ولأشقى أنا هنا غاية الشقاء..
وليت الأمر يتوقف على مجرد حضور المؤتمر .. أنا أشارك بورقة عمل في الجلسة الأولى للمؤتمر الأول الذي احضره في حياتي ..
يا للخطورة !
وهذه القهوة ! هذه القهوة لا يمكن إلا أن تكون مصنوعة من الماء الساخن وأعقاب السجائر فقط !
لو لم ارتكب حماقة الموافقة على الحضور لكنت الآن مستلقية على أريكة مريحة .. احتسي الكاكاو وأتابع حلقة معادة من مسلسل " أصدقاء "..
إنه الشيء الوحيد الذي أجيده ، فلماذا بحق السماء أنا هنا ؟!
عاجزة عن التركيز وجوارحي تختلج في انتظار ساعة الصفر .. أكاد لا أسمع إلا وجيب قلبي يخترق دهاليز أذني ..
فكيف سيكون الحال يا ترى إذا سمعه الجميع عبر مكبرات الصوت و نظام الترجمة الفورية ؟ ترجمة فورية لوجيب قلب خائب !
استطيع من موقعي هذا أن أميز رئيس وفد دولة أفريقية غارق في النوم ! نائم بالفعل وقد تدلى رأسه على عنقه !
ليتهم جميعا ينامون .. ولتذهب ورقة العمل وسهر ليالي في إعدادها إلى الجحيم ..
من يكترث حقا ؟ من من كل هؤلاء يستطيع أن يميز خارطة وطني الصغير ؟ ولو ميزها ؛ فلابد أنها ستبدو له على هيئة مصباح علاء الدين !
ربما وحدي أراها أشبه بكائن منقرض أو في طريقه للانقراض ... كائن أسطوري بقرن واحد !
ليكن معلوما لديك يا وطني الجميل .. أنني اليوم .. في هذا المحفل .. أقلية عرقية ، نوعية ، دينية ، ثقافية .. فلماذا لا يكون مؤتمرنا هذا عن الأقليات ؟
حذائي الجديد ذو الكعب العالي يؤلمني ، والبدلة الرسمية الطويلة ذات القطع الثلاث تثقل كاهلي .. بل وأكاد أشعر بثقل الحجاب الحريري على رأسي ...
وها هو اسم دولتي يصدح بكل اللغات الحية .. وهذا هو أوان حُسن التمثيل !
لا .. شكرا جزيلا .. لا يسعدني أن أدير الرؤوس .. ليس الآن ..
لم تستجيب السماء لتضرعي ولم ينم أحد.. وعلى العكس ، حتى النائم الأوحد استيقظ وأخذ يعيد ترتيب أدواته بمنتهى الهمة والنشاط وكأنه ما نام في المقام الأول إلا ليكون الآن بكامل يقظته .
سبع ثوان عجاف أعقبهن سبع دقائق سمان ..
لم يكن هذا صعبا .. أليس كذلك ؟
يمكنني الآن أن أسترخي في مقعدي الأنيق .. أستطيع أن أرى بوضوح تام جمال تباين الخشب والجلد في المنضدة أمامي ..
وهذا الصف من قوارير الماء ! مياه معدنية ، مياه غازية ، مياه بكل النكهات .. فلماذا لا يكون مؤتمرنا هذا لمناقشة مشكلة المياه ؟
في فترة الاستراحة بين الجلسات، كان كل من يراني يهنئني بالنجاح الباهر الذي أحرزته ورقتي ذات الدقائق السبع !
توافد أعضاء الوفود وبالغوا في الثناء .. حتى بدأ الشك يساورني .. وكأن ثمة من يدفع لهؤلاء لكيل المدائح !
أثناء جلسة صياغة البيان الختامي، وحيث تم اختياري لأكون من ضمن أعضاء لجنة الصياغة..
وبينما كانت الكلمات يعاد تفصيلها وصياغتها مرات ومرات لتصبح فضفاضة وأكثر مطاطية لتناسب مقاسات الجميع !
كنت قد بدأت اسأم من دور الطفلة المعجزة ... وعاد السؤال يلح بشدة : لماذا أنا هنا ؟!
man9oul