غلاف كتاب الثروة عند قاعدة الهرم
"أغنياء العالم هم مقدمو التكنولوجيا والمتمتعون برفاهية استخدامها"، عبارة قد تبدو منطقية بالنسبة للعديد من الأفراد، بل ويذهب البعض لافتراض عدم كفاءة الفقراء في استخدام التكنولوجيا في حال تحصلوا عليها. إلا أن ما طرحه "سي كيه أبراهالاد" مؤلف كتاب "الثروة عند قاعدة الهرم" الصادر عام 2004 يؤكد خطأ هذا التصور.
فقد أكد "أبراهالاد" بالعديد من الأمثلة أن استخدام الدول الغنية للتكنولوجيا ليس بالضرورة الأكفأ أو الأمثل. حيث استعرض عبر الكتاب عددا من الأمثلة والنماذج لدول أضفت لمستها الخاصة على التكنولوجيا، محققة كفاءة في الاستخدام لم تصل إليها الدول الغنية، فالولايات المتحدة مثلا استوردت نظاما للمعلومات الطبية كانت بوليفيا قد طورته للاكتشاف المبكر للأمراض والأوبئة التي قد تبدأ في المناطق النائية عن العاصمة.
وحاول الكاتب أن يورد أمثلة لنماذج جمعت بين نبل الهدف والاعتداد بالعوائد المادية، فيرصد تجربة شركة الحبوب الهندية العملاقة (ITC). والتي قامت بمد شبكة مزارعي فول الصويا الفقراء بالمعلومات ذات الصلة بمحصولهم ليختاروا أفضل وقت، وأعلى سعر لبيعه. وذلك عن طريق نشر شبكة من "أكشاك التكنولوجيا" المزودة بحواسب متصلة بالإنترنت.
يستطيع المزارع من خلال هذه الأكشاك التعرف على حجم المعروض من محصول فول الصويا، وأسعاره في الولايات الهندية الأخرى، وفي بورصة الحبوب في شيكاغو بالولايات المتحدة. فيمكنه عبر ذلك المقارنة لتحديد أفضل وقت وسعر للبيع. وبذلك تكون شركة (ITC) قد حررت المزارعين من جشع وفساد الوسطاء المتحكمين في عملية تجميع فول الصويا. وضخمت من عوائدها التي وصلت لما يزيد عن 2.6 مليار دولار، وللشركة الآن أكثر من 10 آلاف "كشك تكنولوجي" تخدم أكثر من مليون مزارع هندي.
أرافيند.. أرخص رعاية للعيون
دكتور في وحوله مجموعة من تلامذته
يرى المؤلف أن ترشيد التكاليف لا يأتي عبر تقليل جودة أو كفاءة المنتجات أو الخدمات، وإنما يتأتى عبر الابتكار التنظيمي في العمليات والنشاطات المؤدية لتخليق المنتج أو الخدمة النهائية. وشبكة أو منظومة "أرافيند" (Aravind) لرعاية العيون في الهند مثال حي على الكيفية التي يؤدي بها الابتكار التنظيمي الفائق إلى الحفاظ على نعمة الإبصار لأفقر القرويين في الهند، بمستوى عالمي في تقديم الخدمة، ومع تحقيق الأرباح.
بدأ أول مستشفى في منظومة "أرافيند" عام 1976 عندما تقاعد مؤسسها الدكتور فنكاتاسوامي (أو كما يطلق عليه تلاميذه دكتور "في" V) في كلية الطب الحكومية بولاية مادوراي، حيث كان يعمل رئيسا لقسم طب العيون. وكان يدرك قسوة مشكلة فقدان البصر في بلده الهند، حيث بها خُمس مكفوفي البصر في العالم (9 ملايين من أصل 45 مليون شخص). ومن ناحية أخرى كان يعي أكثر من غيره أن الأسلوب التنظيمي لإجراء العمليات الجراحية للعيون (كعمليات المياه البيضاء cataract مثلا) في الغرب ليس الأفضل أو الوحيد، خاصة مع تكلفته الباهظة والتي تصل إلى 3 آلاف دولار.
بدأت منظومة "أرافيند" بعيادة صغيرة بها 11 سريرًا. وكانت رؤية الدكتور "في" جلية من البداية في اعتمادها على 3 محاور: أولا- إنجاز كل طبيب 50 عملية جراحية يوميًّا، وذلك بتدريب عدد كبير من الأطباء على أعلى مستوى أدائي وتقني عالمي في إجراء جراحات العيون. ثانيا- تدريب الكوادر الطبية المساعدة بحيث تعاون الأطباء على إنجاز ذلك العدد الكبير من العمليات دون معوقات. وثالثا- ترشيد النفقات عبر كل مرحلة، مع محاولة إنشاء مركز لتصنيع كل الاحتياجات الطبية وعدم استيرادها من الخارج.
وبحلول عام 2003 كانت رؤية الدكتور "في" متحققة بما يقارب الكمال. فقد تمكن الرجل من الوصول بسعر العملية الجراحية لإزالة المياه البيضاء من ثلاثة آلاف دولار أمريكي إلى ثلاثين دولارًا فحسب. والأهم من ذلك أن الدفع بعد إجراء العمليات. ومن لا يستطيع فليدفع في وقت لاحق، أو ليدفع بأقساط، أو فليذهب بغير اعتذار.
وصارت "منظومة أرافيند" لرعاية العيون أكبر شبكة مستشفيات للعيون في العالم، ورغم توجهها الإنساني النبيل في إجراء العمليات للقادر وغير القادر بلا استثناء، فإنها تحقق أرباحًا يحسدها عليها أكبر مستشفيات الغرب. وقد تحقق ذلك من خلال فريق الأطباء المكون من 113 طبيبا، كل منهم يجري 50 عملية يوميًّا، وبمساعدة حولي 800 مساعد طبي.
وتقدر عدد عمليات جراحة العيون التي تجريها منظومة "أرافيند" سنويا بـ190 ألف عملية. ووصل صافي ربح المنظومة عام 2002 إلى 210 ملايين دولار أمريكي، كما صار للمنظومة الآن مركز لتصنيع العدسات والخيوط الجراحية يصدَّر جزء من إنتاجه، وآخر لتصنيع المستحضرات الصيدلانية المستخدمة في جراحات العيون، إضافة إلى مركز للتدريب ومركز للبحث، وبنك عالمي للعيون ومركز لرعاية عيون الأمهات والأطفال، ومركز للدراسات الأكاديمية لمنح درجة الماجستير في جراحة العيون*.
أزمة الهنود مع نقص اليود
الملح اليودي الهندي
وتدليلا على قدرة الفقراء في استغلال التكنولوجيا يورد الكاتب لنا شركة "هندوستان ليفر" (الفرع الهندي لشركة يونيليفر العالمية) كمثال على أن ثمة أفقا كبيرا للنمو من خلال طرح منتج عالي الجودة يتوافق مع متطلبات الأفراد.
ففي الهند يعاني 70 مليون فرد من اضطرابات نقص اليود التي قد تؤدي إلى التخلف العقلي، كما أن 200 مليون شخص معرضون للإصابة بهذه الاضطرابات. ورغم أن الهنود يتناولون الكثير من الملح في طعامهم (والملح هو أرخص مصادر اليود) فإن 15% فقط منه يوديٌّ. حيث إن الملح من أجل أن يصبح يوديا يجب أن ترش حبيباته بمركب يودات البوتاسيوم. لكن نظراً لظروف النقل والتخزين السيئة ينفصل عنصر اليود عن الملح.
باعتبار هذه المعطيات قررت شركة هندوستان ليفر الاستثمار في أبحاث ترمي إلى تصنيع ملح يودي لا ينفصل عنه عنصر اليود مهما كان سوء النقل أو التخزين. واستعانت لتحقيق ذلك بمجهودات العديد من الجمعيات الأهلية، ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف، إضافة إلى هيئة الطاقة الذرية الهندية للتأكد من أن الملح الذي أنتج متماسك ويودي في مختلف درجات الحرارة خلال الطبخ، وفي أي ظروف تخزين.
وقد نجحت بالفعل هذه التجارب وسجلتها شركة يونيليفر العالمية كبراءة اختراع، وأنتج الملح اليودي الجديد وبيع بنفس أسعار الملح غير اليودي الذي كان متاحًا من قبل. وتم تصدير هذه الخبرة إلى عدة بلدان تعاني من مشاكل مماثلة، مثل غانا وساحل العاج وكينيا.
وهكذا أقدمت الشركة العالمية على تقديم حل لإحدى مشاكل الصحة العامة ذات الآثار الوخيمة على المجتمع الهندي، وفي الوقت ذاته فتحت أفقا جديدا للنمو، حيث يقدر حجم الاستهلاك الهندي السنوي من الملح بما يزيد على 600 ألف طن.
في الأمثلة الثلاثة السابقة نرى عوائد إيجابية لاستخدام الفقراء للتكنولوجيا وتطويرها؛ إذ ساهمت في تحسين معيشة المزارعين وخففت من وطأة كف البصر وأمراض نقص اليود لدى الفقراء.
أمن الحكمة إذن أن يظل بعضنا على اعتقاده بأن التكنولوجيا رفاهية الأغنياء؟!!