جاك الول
نادرا ما يجد القارئ مؤلفات يقف أمامها طويلا أو تثير فكره وتساؤلاته، أو تعطي رؤية مغايرة لما ألفناه في حياتنا وما تلح وسائل الإعلام بكافة أشكالها على ترسيخه ليصبح من مسلمات الثقافة ونواميس الفكر.
ومن هذه الكتب التي تثير المعاني السابقة كتاب "خدعة التكنولوجيا" للكاتب جاك ألول، الذي يعتبر في حقيقته كتابا في نقض بعض الأفكار التي تسعى لترسيخها ظاهرة "العولمة"، والدعاوى التي تستند إليها في القول بأن العالم أصبح قرية صغيرة، وأن البشر لا بد أن تكون لهم ثقافة واحدة يتجمعون في إطارها، بغض النظر عن معتقداتهم وأفكارهم وثقافاتهم، حيث إن العولمة محاولة لملء الفراغ وتبرير تفرد الرأسمالية الأمريكية بالعالم.
كذلك من الممكن اعتبار الكتاب نقدا علميا عقليا لمقولات الكاتب الأمريكي "فوكوياما" حول "نهاية التاريخ" ومزاعمه بأن التاريخ استقر عند الرأسمالية العالمية كنظام سياسي واجتماعي واقتصادي عالمي أمثل، وأن انتصار الليبرالية سيصير المثل الأعلى والموجه الأول لتطور العالم المادي بما يعني الهزيمة المطلقة للخيار الآخر المزاحم لليبرالية الغربية.
ويتكون الكتاب من 20 فصلا توزعت على 4 أبواب ناقش فيها العلاقة العميقة بين البشر والتقنية، فكان عنوان الباب الأول "عدم اليقين" وتناول فيه مسألة التنبؤ المستقبلي في المجال التقني، والازدواجية التي توجدها التقنية بين النافع والضار.
أما الباب الثاني فعنوانه "الخطاب"، وتناول فيه سيطرة الخطاب التقني على واقعنا المعاصر وما ينطوي على تلك السيطرة من عملية خداع كبير، وجدوى وإمكانية إيجاد ثقافة تقنية.
وكان الباب الثالث بعنوان "انتصار العبث"، ويتناول فلسفة العبث وعلاقتها بالتطور التقني، والعلاقة الجديدة بين التقنية والاقتصاد السياسي.
أما الباب الرابع "المبهورون" فيتناول دور وسائل الإعلام في ترويج الخديعة التكنولوجية، والإمكانات التي وفرتها التكنولوجيا للإرهاب.
ويطرح الكتاب إشكاليات كبيرة أكثر مما يسعى لتقديم إجابات، فيناقش أفكارا ظنها البعض من الثوابت والحتميات من كثرة ترديد وسائل الإعلام لها، مفندا إياها على أنها أوهام كبيرة وخداع من العيار الثقيل نسجت خيوطه بعناية، ولذا يشعر القارئ بصدمات عند قراءة الكتاب.
ومن الإشكاليات التي يثيرها الكتاب: مسألة الحياد في الجانب التقني، وإمكانية المزاوجة بين البشر والآلة، وهل أصبح قدر الإنسان في وقتنا الحاضر هو التكيف مع الآلة؟ ومن المسيطر في هذه العلاقة: التكنولوجيا أم الإنسان؟ وهل من الممكن إنتاج ثقافة تقنية تلائم التقدم التكنولوجي على أن ترتبط تلك الثقافة بالجانب الإنساني؟ وجوهر التقنية هل يكمن في الاستهلاك أم في الإنتاج، وما ارتباط ذلك بمعيار الكمال الإنساني؟ وهل مشكلات العالم أصبحت تقنية في المقام الأول وما مدى قدرة التقنية على حلها؟.. تابع معنا في السطور التالية أهم ملامح الكتاب.
الكمبيوتر والبشر.. تطور وتكيف
أصبح الكمبيوتر في عصرنا الحاضر هو المقياس لدرجة التقدم والتطور الصناعي والتقني ولم تعد الطاقة هي معيار التطور كما كان في السابق، وأصبحت تكنولوجيا الحاسب خيارا لا يمكن الفكاك منه، ويتطلب ضرورة التكيف معه من زوايا متعددة، ونتج عن ذلك: أن التقدم أصبح يتجسد في الأصغر، وأصبح هناك إنتاج لا يرتبط بإنتاج السلع بل في معالجة البيانات وتخزينها ومن ثم وجدت أعمال ووظائف لا ترتبط بالقيمة الاقتصادية، وشهد ذلك تراجع مشكلة الطاقة نسبيا في المجتمع لتحل محلها مشكلة الاتصالات ومعالجة البيانات، وأصبح للكمبيوتر علاقة وثيقة بمشكلة البطالة في المجتمع، وأدى ذلك إلى ظهور بعض الرؤى التي تعتبر البشر كما مهملا في ظل سيادة الكمبيوتر.
وقد أطلق "ألول" على هذه التغيرات "صدمة الحاسب" التي تعرضت لها كافة وسائل الإنتاج، وقد انعكست هذه الصدمة على المجتمع والسلوك الإنساني، فأصبح البشر مطالبين بأن يتكيفوا مع تلك التغيرات، وقد أفرزت عمليات سوء التكيف مشكلات كبيرة تمثلت في عدم الاتساق العاطفي والسلوكي مع المتغيرات التكنولوجية، وتعد تلك هي لب كل المشكلات في العالم الغربي، ويرى "ألول" أن هذا التقدم التكنولوجي سحق التلقائية والخيال والقيم، وتلك الأشياء التي تجعلنا بشرا نختلف عن الآلة.
الأرستقراطية الجديدة
ويتناول "ألول" فكرة بزوغ نموذج جديد للإنسانية في الغرب، يرتبط في الأساس بالتطورات التكنولوجية، ويعتمد على أن التكنولوجيا والتقدم هو القادر على تقديم كافة الحلول لمشكلاتنا، ورأى أن هناك خطابا يسعى لتسويق هذه الفكرة أو "الخديعة"، ونتج عن ذلك ظهور طبقة جديدة في الغرب أطلق عليها "الأرستقراطية الجديدة" تتمثل في التكنوقراط الذين يسعون للتأثير في السياسة، ويعتقد هؤلاء التكنوقراط أن بإمكانهم توجيه الأمة اعتمادا على كفاءتهم التقنية، فكل شيء في المجتمع أصبح لا يمكن إنجازه بدونهم.
ثم تحدث ألول عن "التكنوبولس" أو المدينة التقنية التي ابتكرها الأمريكيون وكانت بدايتها في الثلاثينيات، والتي كان الهدف منها أن تصبح المركز الدافع للمجتمع والاقتصاد، حيث اتجهت إليها الاستثمارات المالية الضخمة، وانطلق من ذلك للتساؤل عن مدى الاستمرار في انسياب رأس المال إلى المشاريع التكنولوجية في ظل وجود أفكار ترى أن انتشار وتعدد المراكز التقنية سيبطل كفاءتها، ومن ثم فإن الآراء التي تقول إن البيئة التكنولوجية قابلة للنمو إلى ما لا نهاية تصبح محل شك كبير خاصة بعد انهيار سوق الحاسبات المنزلية في عام 1985م لأول مرة.
وطرح ألول عددا من المشكلات التي ستواجه المجتمعات في حال سيطرة هذه الأرستقراطية الجديدة من "التكنوقراط"، منها أن جزءا من خطابهم يكرر معنى "جدوى الدولة"، وهل الدولة ضرورة مستقبلية في ظل سيادة التكنولوجيا؟
وأشار إلى أن الديمقراطية الكلاسيكية ستصاب بنوع من التفسخ في ظل سيطرة التقنية؛ لأن التكنوقراط هم الذين سيكونون عماد الديمقراطية الجديدة، كما أنهم ينظرون إلى القانون على أنه عديم الجدوى والأهمية لأنه اختراع من الماضي، ومن ثم فهي "أرستقراطية فوق القانون"، كذلك فإن هذه الأرستقراطية تتحدث لغة خاصة بها، لا يستطيع عامة الناس مشاركتهم فيها وهي "لغة كودية" لا يفهمها إلا هم، إذ إن لكل تخصص تقني لغته الخاصة به، وتلك أحد مصادر قوتهم، وبالتالي فإن ثلاثية المعرفة والممارسة واللغة هي التي تفصل التقنيين عن الناس العاديين.
يسعى التكنوقراط إلى ترسيخ فكرة "استحالة الاستغناء عن التقنية" بشكل أيديولوجي، وتحويل تلك الفكرة إلى "أيديولوجيا حتمية"، ويرون أن التقنية لها القدرة على تحقيق ما ظل الإنسان عاجزا عن تحقيقه في القرون الماضية، كالحرية والعدل والمساواة والسعادة... إلخ، ولا يتوقف الأمر عند اعتقاد هذه "الأرستقراطية الجديدة" بهذه الفكرة، وإنما يسعون لتصديرها للمجتمع بشتى الوسائل على اعتبار أن "الأفكار المهيمنة على مجتمع، ما هي إلا أفكار الطبقة المهيمنة"، فهذه الأيديولوجية الجديدة مؤسسة على المهنة، لكن التكنوقراط لا يشكلون طبقة بالتعريف الماركسي، فهم لا يتوارثون المناصب أو السلطة في هذه الأرستقراطية.
حيادية التكنولوجيا.. فكرة مغلوطة
هناك توجه عالمي كبير نحو التقنية في كافة المجالات، ومع هذا التوجه يزداد الشك في آثار التقنية، ويؤكد أنصار التقنية أن الآثار السلبية للتقنية ترجع في الأساس إلى طريقة استخدام الإنسان للتقنية، إلا أن ألول رفض هذه الفكرة، وأكد أن التقنية تحمل في طياتها آثارها الخاصة بها بغض النظر عن كيفية الاستخدام (رغم أن طريقة الاستخدام تدخل في الحسبان) لأن التعويل على الاستخدام لا يعني إلا شيئا واحدا هو أن "التقنية محايدة" غير أن الواقع يؤكد أنها عنصر غير محايد.
فالتقنية خليط معقد من الجيد والسيئ والمحايد، وبالتالي فمن المستحيل توفير تقنية كل ما فيها محايد، كما أن كل أشكال التقدم التكنولوجي لها ثمنها الواجب دفعه على المستوى الاجتماعي أو البيئي أو الاقتصادي... إلخ.
كذلك فالتقدم التقني يثير في كل مرحلة مزيدا من المشكلات الأعقد أكثر مما يساهم في حلها ومن الضروري المقارنة بين المشكلات التي حلتها التكنولوجيا وبين تلك المشكلات التي أوجدتها؛ لأن كل تقدم تكنولوجي مصمم لمواجهة عدد محدد من المشكلات، كما أن الآثار الضارة للتقنية لا يمكن فصلها عن الآثار النافعة.
أوهام التنبؤ.. حلها البصيرة
وحيث إن العصر الذي نعيشه كل شيء فيه ينظر إلى المستقبل، فقد ظهرت أهمية التنبؤ، ويتطلب التنبؤ امتلاك قدر من المعرفة عن الوضع الراهن، وهنا تكمن الصعوبة، فكلما زاد التقدم في البيانات بات علينا أن نعترف أننا نؤسس التنبؤ على معرفة هشة؛ لأن الوسائط الإعلامية قد تروج المعلومات غير الصحيحة، ولأنه كلما زادت التقنية وتقدمت عظمت الاحتمالات وتعددت، كما أن التفكير الإحصائي يفقد قيمته حينما تستطيع حادثة كبيرة خلخلة المنحنى، مثلما حدث في مفاعل تشرنوبل ومسألة أمان الطاقة الذرية، بالتالي يرى ألول أنه من الواجب نبذ تلك الأوهام التي تروج قدرتنا على ضبط المستقبل، وبات علينا أن نستعين بالبصيرة التي تعمل حينما يكون التنبؤ غير مستطاع.
التقنية بين السياسة والثقافة
ويؤكد ألول في كتابه أن السياسة أصبحت تستمد شرعيتها من التقنية، فالعلم يضفي على السياسة المشروعية، لذا تقوم السياسة بمنح التقنية كافة التسهيلات اعتمادا على ما تنتظره من مكاسب اقتصادية وتقوية وسائل تحكمها، رغم أن النمو التقني قد لا يأتي بثروة حقيقية رغم ما يُضخ فيه من أموال واستثمارات.
فقد أدت التقنية إلى "تشفير الواقع"، حسب تعبير ألول، في غلالة معلوماتية قابلة للتلاعب بها، لذا سعت التقنية إلى تشكيل خطاب حول الإنسانية والسمو الإنساني ينظر إلى الإنجاز الإنساني من منظور التقنية، وهو ما يعني أن البشر في القرون السابقة لم يكونوا مصطبغين بصبغة إنسانية كاملة، بل كانوا على حد تعبير ألول "مجرد أجنة بشرية غير مكتملة النضج" وأن البشر الحقيقيين ظهروا خلال الخمسين عاما الأخيرة، فالتقنية من هذا المنظور تجسيد للطبيعة البشرية، وتلقى هذه الأفكار قبولا غربيا وتصديقا بما تولده من آثار.
لكن الواقع والخبرة تؤكد أن هذا الخطاب السابق هو نقيض للخطاب الإنساني، نظرا للتنوع البشري الكبير، فالبشر من المنظور السابق هم المجتمعات التي تنتشر فيها التقنية أما ما عداهم فلا يدخلون في نطاق الطبيعة البشرية. وتحتاج التقنية إلى ثقافية جديدة، إذ من الضروري ترجمة المخترعات إلى ممارسات اجتماعية وأساليب جديدة في التفكير، وهنا تبرز مسألة الثقافة التقنية، حيث توجد محاولات لإدخال التقنية في جسد الثقافة وخلق ثقافة تقنية.
والثقافة التقنية تكاد تكون أمرا مستحيلا لوجود رفض لإخضاع الثقافة للتقنية أو الاقتصاد، فمن غير الممكن تصنيع الثقافة كما تصنع الحاسبات؛ لأن الثقافة بطبيعتها تراكمية تكونها الأجيال المختلفة، ويفترض أن الثقافة تمتلك تأملا نقديا للحياة، وتطلب كذلك وجود مسافة ما بين الإنسان والحياة التي يعيشها حتى يستطيع تقييمها.
وهذه العملية لا يمكن أن تتم بسرعة، إذ إنه من الصعوبة الابتعاد عن التقنية لاعتبارات متعددة، منها أن هذا الابتعاد يتطلب قدرا معينا من الزمن وهو ما يعني أن التقنية تكون قد تقدمت عشرات المرات، وحينما نصل إلى نتيجة ما نكون قد تأخرنا، وبالتالي تكون الثقافة غير مستقرة، ومن الصعب في هذه الحالة الحديث عن ثقافة مجتمعية.
كذلك فإن التقنية تعيق في كثير من الأحيان التأمل، وتلك مأساة العالم المعاصر، فمثلا مشاهدة التلفاز لفترات طويلة تخدر التأمل العقلي وتعيق الكلام، وتقتل الإنسان الواعي في داخلنا. والثقافة في حقيقتها هي ثقافة مجموعة أو جماعة بشرية بها قدر من الترابط والتواصل، والتقنية تقاوم تلك الحقائق على مستويين:
الأول: أن التقنية في الحياة اليومية تزيد من الفردية، وتفرض عدم إقامة علاقات مع الآخرين، وهو ما يستبعد إقامة ثقافة.
الثاني: أن اكتشاف تقنيات جديدة يشكل في حقيقته استبعادا للعنصر البشري، وهذا ما يلغي إمكانات إقامة ثقافة؛ لأن الثقافة تتطلب التعبير عنها في سلوك إنساني وتعبر عن حالة من الاستقرار.
وقد حذر ألول من خطورة تطوير التدريس التقني ليحل مكان تكوين الثقافة، لأن المعرفة العملية تطبع الأفراد بما هو ملموس دائما بمعزل عن المقدرات القابلة للتوظيف في الكيان الإنساني، وهو ما ينمي ثقافة المنفعة وثقافة الاستهلاك، ويوجد مشكلة ربط الإنسان بالآلة، وبالتالي فمن الضروري عدم إخضاع الثقافة للتقنية أو الاقتصاد.
وإذا كان البعض يرى أن حلم التقنية هو في خلق ثقافة عالمية، فإن هذا الحلم المعبر عن ثقافة العولمة في ظل المشروع الأمريكي للعالم لا يمكن تحقيقه؛ لأن البشر أنفسهم ليسوا شيئا واحدا، والتقنية تنظر إلى الثقافات الأخرى على أنها عتيقة وغير ذات جدوى، ومن ثم تجردها من المنفعة والقيمة في آن واحد، فالثقافة لا يمكن تصنيعها؛ لأن الثقافة إنسانية بالدرجة الأولى، ولأن البشر هم قيمتها الرئيسية واهتمامها الأول، والثقافة هي تعبير عن كل ما هو بشري، فهي تبحث معنى الحياة والوجود، وهي تؤكد محدودية العلم البشري، ولا يمكن للتقنية معالجة هذه الأمور، كما أن الثقافة تثير المعنى والقيمة، والتقنية لا يعنيها معنى الحياة، وترفض أن يكون لها علاقة بالقيم، ولا تقبل بأي حكم قيمي على أنشطتها.
وإذا كان البعض يرى أن التقنية ما هي إلا إنتاج ثقافتنا، وإذا أردنا تغيير التقنية فإن علينا تغيير الثقافة، فإن الواقع يؤكد أن التقنية الحالية في غالبيتها هي إنتاج الثقافة الغربية في الأساس، أما بقية البشر فهم مستهلكون لها، والبشر أكثر تعقيدا من الآلة ومن الاستحالة صبغ البشر جميعهم بصبغة الإنسان الغربي وثقافته، كما أنه ليس في مقدور التقنية تفسير حركة التاريخ، إضافة إلى أن التقنية المعاصرة لديها التزام مطلق بخدمة الاقتصاد، وهو ما يجعل التقنية وسيلة للسيطرة في يد من يملك إنتاجها، وتجعل المنتج للتقنية يطرح ثقافته مع الآلة التي يسوقها لأن كليهما يكفلان السيطرة على البشر والثقافات الأخرى.