منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى البشر واستخلفهم على الأرض وهم يحاولون جهدهم استغلال موارد بيئتهم الطبيعية التى خلقها الله وسخرها لهم بطرق شتى لإشباع حاجتهم التى تباينت على مر العصور بتباين البيئة التى يعيشون فيها. والعلاقة بين الإنسان وبيئته على المدى الزمنى علاقة ديناميكية متغيرة بتغير نوع وطبيعة البيئة من جهة ومن جهة أخرى قدرات وامكانيات وتطلعات الإنسان.
وقد خلق الله سبحانه وتعالى البيئة مسخرة لخدمة الإنسان الذى استخلفه فيها ولكن لطول ألفته لحياته على الأرض وسهولة استقراره واستغلاله لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها نسى نعمة الله فى تذليلها له وتسخيرها فيذكره ربه بهذه النعمة فيقول تعالى (هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور). والأرض "الذلول" هى المذللة للسير فيها بالقدم وعلى الدابة وبالفلك والمذللة للزرع والجنى والحصاد والمذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات. فالرزق الذى فيها كله من خلقه ومن ملكه، والرزق يكون ظاهرا جليا على سطحها من نباتات وحيوانات، ومخبوءا فى جوفها من معادن جامدة وسائلة، وحين يأذن الله للناس فى الأكل منه فهو يتفضل بتسخيره لهم وتيسير تناوله، كما يمنح البشر القدرة على تناوله والإنتفاع به. تأمل قول الله تعالى(ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) وقوله تعالى (الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار) وقوله تعالى (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) فالسياق القرآنى هنا يعرض من زاوية التناسق العجيب بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون الهائل. فجعل فى مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدى النجوم وبالمطر والهواء، ومكنه من كل ما تزخر به الأرض من كنوز ظاهرة أو مستترة وهو مغمور فى كل لحظة من لحظات الليل والنهار بنعمة الله الوافرة التى لايدرك مداها فهى خلقت له ومن أجله ولم تخلق عبثا ولم يترك الإنسان فيها على غير هدى بل أرسل الله له الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين وهادين لينيروا له الطريق ويرشدوه إلى كيفية التعامل مع بيئته بأسلوب عاقل واع يحفظ عليه بيئته ويصونها له.
إن التصور الإسلامى وحده هو الذى يمضى وراء هذه الجزيئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق، وفى ظل هذا التصور يعيش الإنسان فى كون مأنوس صديق، وفى رعاية قوة عظيمة مدبرة، ينهض بالخلافة عن الله فى الأرض فى اطمئنان الواثق بأنه مُعان على الخلافة، يتعامل مع بيئته بروح المودة والصداقة يشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود، وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التى تعينه فى خلافته وتيسر له قدرا جديرا من الرقى والراحة والمتاع. أليس ذلك مصداق قوله تعالى (ولقد مكناكم فى الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) وقوله (وهو الذى جعلكم خلائف الأرض) وقوله (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) وقوله (هو الذى جعلكم خلائف فى الأرض( وقول الرسول ) "إن الدنيا حلوة خضرة، والله تعالى مستخلفكم فيها" وخلائف: أى يخلف كل جيل الجيل الذى سبقه، ومن كان شأنه أن ينتهى ويمضى جدير بأن يحسن تواجده ومقامه على هذه الأرض ويترك ورائه الذكر الجميل.
وجميع السلوكيات الإسلامية الصحيحة والبناءة - التى تصدر عن تصور عقائدى سليم - فى التعامل مع موارد البيئة التى نعيش فيها هى من توجيهات المولى سبحانه وتعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض، إن الله لا يحب المفسدين) . فليقابل الإحسان من الله بإحسان التصرف. وليحذر الذين يخالفون عن أمره قول الله تعالى(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) . وقوله تعالى (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد).