كنت مدرسا في حلقة تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد..أراه بعد المغرب..في الخامسة عشر من عمره ممسكاً بمصحف صغير يقرأ فيه ،، لا..لم يكن يقرأ..كان يوهمنا أنه يقرأ فيه..
كان يختلس النظرات إلينا ..الحين بعد الحين .. يريد أن يعرف ماذا نفعل ..
وكان يسترق السمع ..الفنية بعد الأخرى.. يريد أنه يعرف ماذا نقول.. وكلما نظرت إليه غض طرفه..وعاد إلى قراءته.. كأن لم يفعل شيئا
كان يجلس يومياً هذه الجلسة الخجولة..وينظر تلك النظرة الراهبة..بعد إنتهاء صلاة العشاء عزمت على التعرف عليه . أنا أسمي سلمان ..أدٌرس في تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد ،، وأنا أسمي خالد.. عجباً !! قالها بسرعة..كأن يحضر الإجابة من شهور..وكأنه كان يتوقع السؤال منذ أمد بعيد ،، أين تدرس يا خالد..؟
في السنة الثالثة المتوسطة وأحب القرآن جداً.. ازداد عجبي..ما ضرورة تلك الجملة الأخيرة ..؟! تشجعت..وقلت له.. خالد..هل لديك فسحة في الوقت بعد المغرب نستأنس بوجودك في حلقة تحفيظ القرآن
هاه.!! القرآن الحلقة..نعم..نعم..بكل سرورسوف آتي إن شاء الله
أمضيت ليلتي وأنا أفكر في حال هذا الفتى العجيب ..
أستعصى علي النوم.. قلت في نفسي :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزودي
وضعت جنبي على شقي الأيمن . لفني الليل بين أردانه..وأخذني النوم في أحضانه..
اللهم أسلمت وجهي إليك.. وفوضت أمري إليك
ومضت الأيام ..
وخالد مستمر معنا في حلقة القرآن..كان نشيطا في الحفظ والمراجعة.. أحب الجميع والجميع أحبه ،، كان لا يفارق المصحف .. ولا يترك الصف الأول .
لم نكن نكر عليه إلا شيئاً واحداً.. شروده الطويل..وتفكيره الساهم..أحيانا نحس أن جسمه معنا ..لكن روحه تمضي.. سابحة في ملكوت آخر..غارقا في دنيا أخرى،، كنت أفاجئه أحياناً ،، فلا يملك إلا أن يلملم هروبه الذهني ..وشروده الفكري..ويعتذر بعذروهو يعلم أننا لا نصدقه فيه
أخذته يوما إلى شاطئ البحر..
فلعل سره الكبير يلتقي مع هذا البحر الكبير فيفرغ ما في نفسه من الهم..
ويخرج ما في روحه من ألم . وصلنا إلى البحر..ومشينا على شاطئه..
كان الوقت مساءاً..وكان القمر بدراً.. منظر عجيب .. التقى فيه سواد السماء .. مع سواد البحر ووقف نور القمر الفضي حائراً بينهما.. كوقوفي حائرا أمام خالد .
تسري خيوط القمر البيضاء الهادئة الصامته على صفحة هذا البحر الهادئ الصامت
وأنا أمام هذا الفتى الصامت .. المنظر كله صمت...في صمت فلا صوت يسمع إلا صوت الصمت ،، وفجــأة !!.. يخترق هذا السكون..صوت بكاء حار..ونحيب مر.
صوت خالد وهو يبكي ،، لم أشأ أن أقطع عليه لذة البكاء.. وطعم الدموع.. فلعل ذلك يريح نفسه ..ويزيل همه ،، وبعد لحظات قال : إني أحبكم ..أحب القرآن..وأهل القرآن..
أحب الصالحين ..الطيبين الطاهرين ،، ولكن
أبي..أبي أبوك..!؟ وما بال أبيك يا خالد؟ أبي يحذرني دائما أن أمشي معكم
خاف منكم ..يكرهكم ،، كان دائما يبغضني فيكم..ويستشهد على ذلك بقصص وحكايات ..وأساطير..وروايات.. لكني عندما أراكم في الحلقة تقرؤون القرآن.. كنت أرى النور في وجوهكم.. والنور في ثيابكم ..والنور في كلامكم .. بل كنت أرى النور في صمتكم ..
كنت أشك في كلام والدي ..فلذلك كنت أجلس بعد المغرب..أنظراليكم..وأتخيل نفسي
معكم..أقتبس من نوركم..وأرشف من معانيكم.. أتذكر..أتذكر يا أستاذ سلمان..
أتذكر..عندما أتيتني بعد صلاة العشاء لقد كنت أنتظرك منذ زمن بعيد ..
تمسك بروحي.. وتجعلها تحلق مع أرواحكم.. في عالم الطهر والعفاف.. والنور والاستقامه
تشجعت ..دخلت الحلقة..اجتهدت..لم أكن أنام..كانت أيامي وليالي كلها قرآن
احظ أبي التغير الذي طرأ على حياتي.. علم بطريقة أو بأخرى أنني دخلت التحفيظ ومشيت مع الملتزمين .. حتى كانت تلك اليلة السوداء .. كنا ننتظر حضوره من المقهى .. كعادته اليومية.. لنتناول العشاء سويا ،، دخل البيت .. بوجهه المظلم.. وتقاطيعه الغاضبة ،
جلسنا على سفرة الطعام . الكل صامت ..كالعادة.. كلنا نهاب الكلام في حضوره ثم قطع الصمت بصوته الأجش الجهوري..وبصراحته المعهودة ،، لقد سمعت أنك تمشي مع (المطاوعه) أصيب مقتلي.. عقد لساني.. ذهب بياني.. اختلطت الكلمات في فمي ..
لم ينتظر مني الإجابة ،، تناول إبريق الشاي..ورماه بقوة في وجهي ، دارت الدنيا في رأسي .. واختلطت الألوان في عيني ,, وأصبحت لا أميز سقف البيت..من أرضه ..من جدرانه.. سقطت..! حملتني أمي .. صحوت من إغمائي على يديها الدافئة وإذا به يقول
قم ولا تأكل معنا .
وقبل أن أقوم..قام هو وركلني في ظهري ركلة..أسقطتني على صحن الطعام
خيلت أنني ..أصرخ في وجهه ..وأقول له.. سوف أقتص منك..
سوف أضربك كما تضربني..وأشتمك كما تشتمني.. سوف أكبر وأصبح قوياً..
وسوف تكبر وتصبح ضعيفا.. عندها أفعل بك كما تفعل بي .. وأجزيك شر ما جزيتني..
ثم هربت..خرجت من المنزل .. أصبحت أجري وأجري من غير هدى..وبدون هدف
عندها..نزلت من خالد بعضاً من دموعه النقية ..التي سطعت في ضوء القمر..
كما يسطع اللؤلؤ تحت ضوء المشاعل .. لم أنبس بكلمة..فقد ربط العجب لساني..واستعجم بياني.. هل أعجب من هذا الأب الوحشي..ا لذي خلا قلبه من معاني الرحمة ..
وعشعش في قلبه شتى أنواع القسوة..أم أعجب من هذا الابن الصابر الذي أراد الله له الهداية فألهمه الثبات ..أم أعجب من الاثنين ..حيث إستحالت رابطة الأبوة والبنوة..بينهما
وصارت علاقتهما كعلاقة الأسد بالنمر والثعلب بالذئب . أخذته بيده..ومسحت دموعه بيدي وصبرته..ودعوت له..ونصحته ببر والديه..والصبر على أذاه..ولو حصل منه ما حصل ،، وفعل ما فعل ووعدته بأن أقابل والده..وأكلمه وأستعطفه.
مرت الايام.. وأنا أفكر في الطريقة التي أفاتح بها والد خالد في موضوع أبنه..وكيف أتكلم معه ،، وكيف أقنعه.. بل كيف أعرفه على نفسي.. بل كيف أطرق الباب عليه ..
وأخيراً..إستجمعت قواي.. ولملمت أفكاري.. وقررت أن تكون المواجهة أقصد المقابلة
اليوم..الساعة الخامسة..وفي تلك الساعة..سرت إلى منزل والد خالد..
وسارت معي أفكاري الكثيرة..وتساؤلاتي العديدة ،، طرقت باب المنزل ويدي ترتجف وساقي تعجز عن حملي..ثم..فتح الباب.. وإذا..بذلك الوجه العابس..وتلك التقاطيع الغاضبة..إبتسم إبتسامة صفراء.. لعلها تمتص نظرته السوداء..وقبل أن أتكلم أمسك بتلابيب ثوبي.. وشدني إليه وقال: أنت المطوع الذي تدرس خالداً في المسجد .
قلت:...ن...ع...م.
قال: والله لو رأيتك تمشي معه مرة أخرى.. كسرت رجلك.. خالد لن يأتيكم بعد الآن .
ثم جمع مادة فمه..وقذف بها دفعة واحدة في وجه الفقير إلى الله.. وأغلق الباب وكان ختامها مسكاً ،، رجعت أدراجي وأنا أسلي نفسي..
رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فعل به أكثر من هذا.. كذبه قومه..شتمو .. رموه بالحجارة..أدموا رجله.. كسرو رباعيته.. وضعوا القاذورات فوقه .
أخرجوه من وطنه.. وطردوه من أرضه ..
مرت الأيام تلو الأيام والشهور تلو الشهور ونحن لا نرى خالداً فأبوه يمنعه من الخروج
حتى إلى الصلاة.. ويمنعنا نحن من رؤيته وزيارته..دعونا له.. ونسيناه مع غمرة الحياة..
مرت سنة واثنتين وثلاث.. وفي ذات ليلة.. بعد صلاة العشاء..في المسجد إذا بيد غليظة تمسكني..!! آه ..إنها ذات اليد التي أمسكت عنقي قبل سنين..إنه نفس الوجه..ونفس التقاطيع ونفس الفم الذي أكرمني بما لا أستحق!! ولكن هناك تغيراً كبيراً.
الوجه العابس ..أضحى منكسراً ،، والتقاطيع الغاضبة..أمست ذليلة هادئة ..والجسم القوي هدته الآلام والهموم..والجسد أضعفته الأحزان والغموم.. أهلا ياعم..
قبلت رأسه ..ورحبت به..وأخذنا زاوية في المسجد ،، إنفجر باكياً .
سبحان الله..ما كنت أظن ذلك الجبل سوف يصبح سهلا..ولا ذلك البحر الهادر..يمسى غديرا منسابا.. تكلم ياعم..أخرج ما في نفسك..كيف حال خالد ؟ خالد !!! كأني بكلمتي هذه قد غرست في أحشائه خنجراً..وأودعت في فؤاده سكينا ،، تنهد تنهدا عميقة..ومضى يقول : أصبح خالد أبني..ليس خالد الذي تعرفه..ليس خالداً الفتى الطيب الهادئ الوديع .
منذ أن خرج من عندكم , تعرف على شلة من شلل الفساد..فهو اجتماعي بطبعه..
وهو في سن يحب فيها أن يخرج ويدخل ويلهو ويلعب.. بدأ بالدخان- شتمته ضربته..لا فائدة فقد تعود جسمه على الضرب..واستساغت أذناه الشتائم والسباب. كبر بسرعة..كان يسهر معهم طويلا .. لا يأتي إلا مع طلوع الفجر.. طرد من المدرسة .. أصبح يأتينا في بعض الليالي .. وكلامه ليس ككلامه .. ووجهه ليس كوجه .. لسان يهذي .. ويد ترتعش
تغير ذلك الجسم الغض الممتلئ الطري ..أصبح جسماً مهترئاً ضعيفاً .. وتغير ذلك الوجه الأبيض النقي..أصبح وجهه أسوداً..عليه غبار الخطيئة والضياع..وتغيرت تلك العينان الصافيتان الخجولتان..أصبحت حمراء كالنار.. وكأن ما يشربه ويتناوله .. تبدو عاقبته على عينيه في الدنيا قبل الآخرة.. ذهب ذلك الخجل والاستحياء..وحلت مكانه الرعونة وسوء الأدب ،، ذهب ذلك القلب الطيب البار.. وستحال قلباً قاسيا كالصخر أو أشد
أصبح لا يمر يوما إلا ويشتمني.. أو يركلني أو يضربني .. تصور..!! أنا أبوه..يضربني؟!
ثم عاود بكائه الحار ونحيبه المر ،، ثم مسح دموعه ،، أرجوك يابني ...يا سلمان ..زورو خالداً..خذوه معكم.. سوف أسمح لكم..بيتي مفتوح أمامكم.. مروه..إنه يحبكم..سجلوه في حلقة تحفيظ القرآن ليذهب معكم الرحلات..لا مانع عندي أبداً.. بل إنني راضٍ أن يعيش في منازلكم.. وينام معكم .. المهم أن يرجع خالد كما كان..أرجوك..أقبل يديك ..وألثم رجليك.أرجوك..أرجوك.. ومضى في بكائه ونحيبه..يقلب حسراته ..تركته حتى أنهى ذلك كله.. فقلت له .. ذاك زرعك..وهذا حصادك.. ورغم ذلك دعني أحاول