فطور
وأنا في المطعم الصغير التابع للبنسيون، لم أستطع منع نفسي من تأمل السائحة التي يبدو أنها دخلت عهد الكهولة من دون قلق، ربما لأنها ما زالت تحتفظ بأناقة ما، وربما لأن لديها ردفين عريضين وزوجاً بالغ النحافة، كأنه على وشك أن يذوي وينقصف.
يدخلان إلى المطعم، هي أمامه وهو خلفها، يتبعها طائعاً، ويبدو من مشيته المترددة كأنه طفل مدلل تقوده أمه عنوة إلى مائدة الطعام. يدخلان ونتبادل تحية الصباح، وأنا أشرب عصير الليمون وأتابع تضاريس المرأة وهي تغدو وتروح، تحمص الخبز، تضع في صحنها جبناً ومرتديلا وزبدة ومربى، وزوجها يتأمل الأطعمة ولا يبدو عليه أنه متحمس لتناول أي شيء منها. يكتفي بكأس من الشاي ويجلس على طرف الكرسي مثل عصفور، فيما ردفا زوجته يفيضان عن حدود الكرسي وهي تأكل طعامها بتلذذ، وبين الحين والآخر تتبادل معه كلاماً حنوناً، ثم تنهض لتحضر له جبناً ومرتديلا وخياراً وقرن موز، يتردد بعض الوقت ثم يأكل من دون شهية، ويتمتم بكلام غير مسموع، يبتسم بشكل مفاجئ ليعود إلى صمته من جديد، والزوجة تبدو في أتم ألفة مع المكان.
وأنا أنهي تناول طعام الفطور، وأنهض، وقبل أن أغادر أقول لهما بحبور: شهية طيبة! ثم أبتعد.
قول
قلت لها لا تذهبي. قالت: لم أجئ بعد.
الكوتفا
ذهبت إلى الكوتفا لكي أشتري سكيناً وعصّارة برتقال. الطبيب أوصاني أن أشرب عصير البرتقال أينما حللت، لكي أتفادى جلطة دماغية قد تأتي في أي وقت. غادرت البنسيون واتجهت إلى الكوتفا. تأملت المجمع التجاري بطوابقه الخمسة، ولم أصدق أنني كنت هنا من قبل. من هنا اشتريت معطفي الأسود الذي يشبه معاطف رجال الشرطة، المعطف رافقني في أسفار عديدة، ولم أتخلص منه إلا قبل ثلاث سنوات. من هنا اشتريت قمصاناً وربطات عنق، ولم تكن الجلطة الدماغية تخطر بالبال آنذاك.
تجولت قليلاً في أرجاء المكان، تذكرت نتفاً من حياتي التي كانت هنا، ثم اتجهت إلى الجناح الذي سأشتري منه سكيناً وعصارة برتقال. لم أجد زبائن في هذا الجناح. قلت: هذا أفضل لي، لأنني بذلك سأتجنب الانتظار. البائعة التي في الأربعين أو أكثر قليلاً، تتحدث بنزق مع شخص ما على هاتفها النقال. تركتها لشأنها وانتقيت سكيناً تشبه خنجراً صغيراً، انتقيت عصارة برتقال من بلاستيك، واتجهت إلى الصندوق حيث تقف البائعة المنهمكة بمكالمة حادة على هاتفها النقال. تأملتها وانتظرت، ولم أشأ أن أقطع عليها المكالمة. أشرت لها بيدي أن تأخذ وقتها وزيادة، فأنا مستعد للانتظار
وكان علي أن أنتظر فترة أطول مما قدرت، لأن المرأة فيما هي تتحدث على الهاتف، أصيبت فجأة بإغماءة. سقطت على الأرض. وكان عليّ أن أنشغل باستدعاء سيارة الإسعاف وبتقديم شهادة أمام رجال الشرطة، فلم أعد إلى البنسيون إلا بعد ساعات، ومعي السكين وعصارة البرتقال.
كلب
رأيته واقفاً قرب جسر الملك كارل. اقتربت منه وقلت: أظن أنني أعرفك! قال: نعم يا سيدي، لا أستغرب ذلك. سألني: هل أنت واحد من رجال المباحث؟ قلت: لا، أنا مجرد قارئ كتب. سألته: هل تنتظر أحداً؟ قال: أنتظر سيدة ومعها كلبها. قال: سأسرق الكلب وأبيعه وأشرب بثمنه خمراً. قلت: لم تكن لصاً، فماذا جرى لك؟ تجاهل سؤالي وقال: أحضرتُ معي قطعة لحم! حينما يشم الكلب رائحة اللحم، سيتبعني، أمشي مبتعداً ويتبعني.
رأيته يدقق النظر في جموع الناس التي تمشي على الجسر. قال: ها هي قد جاءت! منذ ثلاثة أيام وأنا أراقبها، كلبها يمشي خلفها ولا تلتفت إليه، لأنها واثقة من أنه يتبعها مثل ظلها.
رأيته وهو يضرب كفاً بكف. قال: هل رأيت! الكلب لا يتبعها. قلت: ربما تركته في البيت. قال: هذا غير ممكن. شخص آخر سرق الكلب!
رأيته يفكر فتعلو وجهه مسحة من غباء. قال: هذه السيدة لا يمكنها أن تعيش من دون كلب يتبعها! سألني: هل تراهن على ذلك؟ قلت: لا أراهن. قال: لا تراهن وتكتفي بأن تضيع لي وقتي. قال: أنا الآن سأتبع السيدة! قال مكرراً كلامه: سأتبع السيدة.
رأيته يمضي مبتعداً وأنا ابتعدت.
رصيف
تضطجع في وضح النهار تحت شجرة على رصيف الشارع. الشارع في حي هادئ، تعبره بين الحين والآخر سيارات أنيقة، والبنت تضطجع تحت الشجرة وفوق جسدها غطاء لا يكاد يكفي الجسد، ساقها العارية تبرز من طرف الغطاء، ونهدها الأيسر مكشوف، كما لو أنه يتقصد هذه الإطلالة على الشارع، للتمتع برؤية السيارات وهي تمر من دون أن تلقي بالاً لأحد. والبنت لا بيت لها ولا تملك حلاً لمشكلتها سوى هذا الرصيف.
دعتها امرأة في المدينة إلى بيتها. أدخلتها إلى الحمام. طلبت منها أن تخلع فستانها المهلهل وسروالها الذي لا يخلو من قمل وبراغيث. أحضرت لها فستاناً نظيفاً وسروالاً، وتركتها تحت الماء الدافئ عشرين دقيقة.
شوت لها سمكاً على النار، وصبت لها كأس نبيذ. أكلت السمك بشهية وشربت كأس النبيذ. عرضت عليها سيجارة. لم تأخذها. قالت إنها لم تتعلم هذه العادة الكريهة. احتملت المرأة كلامها الفج، وابتسمت ابتسامة قابلة لأكثر من تأويل. قالت لها: بعد ساعة يأتي رجل ميسور نبيل، وعليك أن تكوني لطيفة معه.
لم تتبدل ملامحها. جلست تنتظر. وحينما دخلت المرأة إلى الحمام، انسلت البنت خارجة وعادت في التوّ إلى الرصيف.
كلاب
قال لي: خلال عشرين سنة، سرقت سبعة وستين كلباً، بينها كلب واحد سرقته خمس مرات.
عشاء
رأيته يتناول طعام العشاء في المطعم الصيفي القريب من تمثال الراهب يان هوس، ومعه فتاة. كان منهمكاً في التهام السمك والفتاة لا تأكل إلا ببطء، كما لو أنها تخشى أن يؤنبها لو جارته في التهام الطعام. توقعتُ أن تبدر منه نظرة عابرة، فيعرف أنني أنا الذي التقيته عند الجسر في الصباح. لم يلتفت إلي، ربما لانهماكه في تناول الطعام، وفي سرد الحكايات. يلتهم لقمة ثم يبتلعها، ليعبّ من كأس الخمرة، ثم ليروي حكاية، ويعود إلى التوقف عن سرد الحكاية لكي يلتهم الطعام، والفتاة مصغية إليه باهتمام، وبين الحين والآخر، تأخذ حظها من الطعام ولكن باعتدال.
قال لها: لم أتشرد في الطرقات يوماً. قال: كان لي دائماً بيت أقيم فيه. سكنت بيوتاً عديدة في هذه المدينة. البيوت تملكها نساء فاضلات. كن يحتملنني إذا لم أدفع لهن الأجرة في الوقت المحدد. وأحياناً كن يغضبن مني إذا لم أدفع لهن شيئاً لسنوات طوال.
رأيت الفتاة معجبة به كما يبدو. (أم أنها كانت تظهر غير ما تبطن!) قال: تسكنين في بيتي إذا ما رغبت في ذلك، ومن الغد، سأشتري لك كلباً، سأحضره إلى البيت وأصبغ فروته بلون مناسب، ويمكنك أن تخرجي للنزهة على جسر الملك كارل ومعك الكلب، وأنا أقول لك من الآن: احذري اللصوص.
رأيتها تنهض وتقول إنها ستعود بعد قليل. تابعها لحظة بعينيه وعاد إلى التهام الطعام. حانت منه التفاتة فرآني. ابتسم ابتسامة بلهاء ولم يقل أي كلام، والفتاة لم تعد إليه، لأنها خافت كما يبدو من رغبته المفرطة في سرد الحكايات.
بيت
رأيته في شارع صلاح الدين، واقفاً بالقرب من حانوت الذهب، بوجهه البريء وابتسامته البلهاء. سألته: لماذا أتيت إلى هنا؟ قال: هل أنت من هذه المدينة؟ قلت: هل لديك شك في ذلك؟ لم يجب عن سؤالي. سألت: هل تذكر أننا التقينا من قبل؟ قال: لست متأكداً، ربما. سألت: ولكن، لماذا أتيت؟ قال: هرباً من الحرب العالمية الأولى! قلت: تلك الحرب انتهت من زمان. قال: بالنسبة لي، لم تنته تلك الحرب بعد. قلت: السلم ما زال بعيداً هنا! قال: توهمت أنه قريب ولهذا أتيت. سألت: أما زلت تسرق الكلاب؟ قال: هل أنت واحد من رجال المباحث؟ قلت: هل نسيتني؟ هل نسيت تلك السيدة التي تبعتها عند الجسر؟ قال: الآن تذكرت! ظنّت أنني كلبها وأنا أتبعها مثل ظلها! سألت: ماذا فعلتَ لكي تظن أنك كلبها؟ قال: نبحتُ خلفها حتى وصلنا البيت. قلت: وماذا أيضاً؟ قال: تركتها تنام، ثم سرقت من بيتها ما يعادل أثمان عشرة كلاب وخرجت.
رأيته يمضي مبتعداً وأنا ابتعدت.
عربة
ركبنا عربة من عربات القرون الوسطى. قالت للحوذي: خذنا إلى القرن العاشر من فضلك.